حاجة مصر لإحلال كتلة اجتماعية جديدة بدلا من القديمة!

كان من الطبيعي أن أتناول الاستفتاء على الدستور الذي جرى وظروفه ودلالاته، لكن الحدة المسيطرة على وجدان الملتزمين بما تبثه مواقع الكتائب الألكترونية لأغلب جماعات الإسلام السياسي، وأثر ما ينقل مترجما عن أغلب أجهزة الإعلام والصحافة الغربية والأمريكية في تناولها للأحداث المصرية يعوق أية محاولة ولو كانت نصف موضوعية لمعالجة ما يجري هناك. هذا على الرغم من أن الاستفتاء على تعديل دستور 1971، والذي انتهى إلى إلغائه واستبداله بإعلان دستوري صدر في 30 اذار/ مارس 2011 وجد من يضفي عليه قدسية غير مبررة رغم ما به من مخالفات وتجاوزات؛ وكان أخطرها ‘التصويت على الهوية’ بنفس طريقة ‘القتل على الهوية’، وقد تعرضت شخصيا لمضايقات مؤسفة كتبت عنها في حينها، لمجرد أن هناك من المنظمين المحسوبين على الإخوان من استشعر أنني سأصوت بـ’لا’، ولولا وجود شاب يعرفني، وتقدم مبادرا بحمايتي ببنيته القوية ما كنت قد خرجت سليما، وارتبط السبب يومها بتصنيف التصويت بـ’نعم’ بأنه مع الإيمان وطريق المؤمنين إلى الجنة، أما إذا كان التصويت بـ’لا’ فهو مع الكفر ومصير مقترفه إلى جهنم وبئس المصير!!
كان ذلك نقطة تحول نوعي في موقفي تجاه جماعة الإخوان، وترتب على ذلك تقديم اعتذار لقرائي عما قمت به من دفاع عن حقها في ممارسة العمل السياسي على مدى سنوات؛ بما فيه حق الوصول إلى مقاعد الحكم.
وتتابعت موجات العنف وسالت الدماء في وقت كانت هذه الجماعة ‘سمن على عسل’ هي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق، وبالنسبة لما حدث معي، جاء في وقت لم تكن بيني وبينها أية خصومة وكنت أُحسن الظن بها بسبب صداقات ربطتني بعدد من رموزها، وجاء ما حدث باعثا على القلق بالنسبة لمستقبل البلاد، وأثر ذلك على العلاقات بين المواطنين، بل وانعكاساته على الإسلام السياسي الذي كسب تعاطف كثيرين.
ومع كل المؤشرات التي بدت مقلقة وقتها انتهى الأمر باتفاق ‘جنتلمان’ غير مكتوب بين من قالوا ‘لا’ معلنين قبولهم بذلك الإعلان الدستوري؛ أملا في نقلة ديمقراطية حقيقية، وتسليمهم بالعمل تحت راية الجماعة وحلفائها، ومنهم من وصف نجاح الاستفتاء بـ’غزوة الصناديق’، وقد كان الرجاء معقودا لتكون هذه بدايتهم للاندماج في الجماعة الوطنية، خاصة أن المواطن لم يبخل عليهم بالتأييد والنصرة، لكنهم تقمصوا دور الغزاة، الذين لم يفرقوا بين من أحسن الظن بهم أو من عاداهم، وقد تواتيني فرصة للكتابة عن ‘الغزو بالصناديق’ في ‘ديمقراطية مصر الجديدة’!.
وبناء على ما تقدم وجدت أن الأفضل هو استكمال موضوع الأسبوع الماضي عن الرافضين لحقبة الستين عاما الماضية، وتضم عناصر وجماعات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وناقشت إمكانية اندراجهم في حزب واحد؛ يعمل في النور ويظهر للعلن. وحسب نظرة تلك التيارات لتلك الحقبة باعتبارها الشر المطلق، صارت أقرب للطابور الخامس؛ المعني بالهدم وغير المكترث بالبناء، وكل ما يهمه هو طمس الذاكرة الوطنية؛ وذلك استجابة واضحة لمقتضيات العولمة وما بعدها؛ في تركيزها على التشكيك في الهوية وتشويه الثقافة الوطنية، والإقرار بنهاية التاريخ ليبقى تاريخ الغرب وحده أساس التحضر والمدنية، وكأن غير الغربيين ليست لديهم قابلية لذلك، وتناول كثيرون عقد المتخلفين من تقدم الغرب، إلى أن انقلبت الآية وصارت عقد الغرب من أعباء المتخلفين، مع أن التخلف يتخذ مبررا لتجريد أصحابه من تاريخهم وثقافتهم ومبررا لإبادتهم وإنهاء جودهم ذاته، وكأن الغرب لا يتحمل نصيبه من المسؤولية المادية والتاريخية في ترسيخ ونشر هذا التخلف.
والموقف الرافض للستين عاما الماضية يعبر عن حالة نفاق من الطبقة السياسية المسيطرة على المشهد العام وصاحبة الوزن والكلمة في الحكم والمعارضة على حد سواء؛ نفاقها لمراكز الهيمنة والتوجيه الغربي، وامتد هذا إلى ثورتي يناير ويونيو، فالأولى صارت مؤامرة وصناعة أمريكية، والثانية قامت بها فلول حكم مبارك، وتجري عملية شيطنتهما على قدم وساق، ويستغل ذلك النفاق غطاء للتطلعات غير المشروعة واستمرار التبعية وتقديم أوراق الاعتماد إلى الغرب وطلب دعمه وتزكيته.
وكل تلك صخور تعيق الحراك الشعبي وتشوه إمكانية العطاء المطلوبة والتضحيات الواجبة لتثبيت دعائم الثورة، وصار التكالب على الغنائم والمناصب، والعمل على ألا تكون الثورة معيارا لصياغة الحياة الجديدة؛ سياسيا واجتماعيا وثقافيا وعلميا، والتي لا يمكن لها أن تتم دون الالتزام بأهداف ثورة يناير؛ ‘العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية’، أو بتجاهل ما أضافته ثورة يونيو في مجالي الاستقلال الوطني والانتماء العربي، وأضافت هدفين غائبين إلى أهداف ثورة يناير الأربعة الأولى فصارت ستة أهداف؛ ‘العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطني والانتماء العربي’.
وما لم تُترجم هذه الأهداف الستة إلى برنامج عمل وطني يخرج من رحمه مشروع سياسي يحول هذه الأهداف إلى خطط عمل وواجبات تنفيذية ملموسة على الأرض، ودون ذلك فسوف يُعاد إنتاج ما سبق من نظم وسياسات، ويستمر بتسليم الزمام للكتلة الاجتماعية القديمة، ويسمح لها بإعادة صياغة رؤاها لتلبية مصالحها ومصالح أحزابها ألضيقة، وتغطيتها بغلالة ثورية لزوم الخداع المطلوب؛ لإجهاض أحلام الثوار وتشويه غايات الثورة، فيتفرق دمها بين الجماعات والقبائل السياسية، فتتفاقم المشاكل وتنفجر الصراعات لتبقى في حالتها الدموية الراهنة.
وإذا ما أضفنا إلى ما سبق قدرة الكتلة الاجتماعية القديمة على ‘تسليع’ (من سلعة) الثورة؛ لزوم عقد الصفقات السياسية والحصول على الامتيازات، فهذه القدرة تتسبب في منع إلتئام ‘الكتلة الاجتماعية الجديدة’؛ الجامعة والمعبرة عن مصالح وتطلعات قوى الثورة، وفي تعويق المعالجات السليمة، خاصة في مجال التنمية الشاملة، فالكتلة الاجتماعية القديمة ما زالت مسيطرة على الملف الاقتصادي منذ شباط/ فبراير 2011 وحتى الآن، ووجدت في المراوغة سبيلا لعدم تلبية متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الملحة، والمراهنة الدائمة على استمرار الاندماج في النظام الرأسمالي، وهي لا تملك مقوماته ولا تقدر على ضبطه، ولا تملك إلا القبول بفساده واستعارة قوانينه وآلياته؛ قانون السوق وآليات الخصخصة والمضاربة والاقتراض وطلب المعونات، والتعايش مع الفساد والاستبداد والتبعية والفقر!.
وعليه ما زالت حكومات ‘الثورة’ مجازا تنظر إلى المستثمرين كأنبياء؛ يحق لهم ما لا يحق لغيرهم؛ من قوت وعرق المصريين، وكما اتفقت الطبقة السياسية بليبرالييها ويسارييها وإسلامييها على إدانة حقبة الستين عاما الماضية؛ أجمعت ايضا على تقديس المستثمرين وعبادة الاستثمار الفردي، وخلا الخطاب الاقتصادي والاجتماعي ‘الثوري’ من مصطلحات التنمية أو أدبيات الكفاية أو مفردات الاكتفاء الذاتي أو لغة التوزيع العادل للثروة، وهذا بعد تجربة مرة عاشتها مصر تحت حكم المستثمرين ورجال المال والأعمال، ومن المفارقات أن تلصق كل الموبقات إلى ما يسمى ‘حكم العسكر’، بما فيها عشرينية ثورة 1952 الأولى، المتناقضة تماما مع عشرية السادات، وثلاثينية مبارك، ويتم غض الطرف عمدا عن حكم الدولة البوليسية، وبداياتها كانت مع وزارة ممدوح سالم في سبعينات القرن الماضي، وانتهت بحبيب العادلي حاكم مصر الفعلي مع مبارك، والدولة البوليسية هي التي أذلت المصريين ومكنت رجال المال والأعمال والمضاربين والسماسرة من الحكم والسلطة والنفوذ، ولا تجد من الرافضين لحقبة الستين عاما الماضية من ينتقد الدولة البوليسية أو نهب ‘المستثمرين’ لموارد البلاد وخيراتها؛ عقدتهم هي الجيش المصري، والسبب تاريخه وانحيازه المعروف للشعب، ولو أن الجيش انحاز لحكم الجماعة وحلفائها، علينا أن نتصور ما يمكن أن يكون عليه حال مصر، وحجم الدماء التي كانت ستسيل أنهارا في تصفية الحسابات وعمليات الانتقام من مجتمع ‘جاهلي وكافر’ حسب ما تنص عليه أدبياتها.
وتقديس المستثمرين وشيطنة الدولة بجهازها الإداري وجيشها وشرطتها وقضائها ومؤسساتها الدينية (الأزهر والكنيسة) فكل هذا من أجل أن يقتسم اليمين الطائفي والمذهبي والليبراليون الجدد غنائم السياسة، وأن يوجهوا الاقتصاد ويسيطروا على الإعلام ويتحكموا في الرأي العام. وهم لا يملكون حلولا حقيقية للمشاكل على أي مستوى داخلي أو عربي أو دولي، وما أسهل اللجوء إلى ‘التدويل’، الذي ينتهي بتفويض ألإدارة الأمريكية لوضع الحلول وتنفيذها، وكانت آخر محاولات الحلول الوطنية والعربية، هو ما بدأ بعد نكسة 1967 حتى حرب 1973، وبعدها سلمت مصر الرسمية بالوصاية الأمريكية في حل مشاكلها ومشاكل غيرها من العرب حتى الآن. ولنتأمل القضية الفلسطينية في ظل هذه الوصاية، وهي تتعرض لآخر مراحل التصفية والقضم الأخير لأرض فلسطين التاريخية؛ لينتهي كل حق في الأرض والتحرير والعودة.
وبدلا من إيجاد الحلول الناجعة يغرق العرب في الفتن بكل أنواعها وصورها، ويندفعون بسرعة فائقة نحو الهلاك، والغرق في بحر التقسيم والتفتيت والتفريط المتلاطم، وهذا مطلوب لرسم خرائط المنطقة، مع زيادة قابليتها للضعف والتراجع والهوان، وما زالت الكتلة الاجتماعية القديمة تعيش الأبهة والإسراف وتمارسه باسم الحفاظ على هيبة الدولة؛ المحصورة في المظاهر والتسلط، وتتعامى عن أن الهيبة الحقة تتحقق في أجواء الحرية والعدل والمساواة الإنسانية والقانونية للمواطنين.
وما زالت كل موجة ثورية تسلم زمام أمرها للكتلة القديمة فتلجأ للسياسة على حساب الثورة، والسياسة وحدها بعيدا عن الثورة تطرح ولا تجمع، وتسحب ولا تضيف، وتأخذ ولا تعطي، والبحث عن مخرج يتحقق بجمع قوى الثورة ولم شتاتها، وليكن بمبادرة تمكنها من ذلك، وبلورة برنامج ثوري؛ منطلقاته الأهداف الستة لثورتي يناير ويونيو، وهناك حاجة لوجود قوة أو جماعة أو فرد يبادر بهذا، وهذا ما يجب أن يتم بعد الاستفتاء على الدستور، الذي لا يجب أن يسمح باستمرار تسليم الزمام للكتلة الاجتماعية القديمة لتعيد إنتاج النظم والسياسات الفاسدة السابقة، وهذا متوقع إذا ما غابت مثل هذه المبادرة.

‘ كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول يحي:

    الله أكبر ، كاتب عربي و مسلم مخلص لوطنه و دينه ! دمت ذخراً لنا يا سيد دياب .

  2. يقول عربي مسلم:

    بدون تعليق : 99.99 % ؟؟؟!!!

  3. يقول عربي مسلم:

    قد نتفق معك في بعض ما قلته ، ماعدا تهجُّمك على الإخوان و جعلك لانقلاب 30 يونيو “ثورة” ! و أنها أضافت (أي الانقلاب) بُعْداً آخر إلى ثورة يناير، بُعْدَ ” …الاستقلال الوطني والانتماء العربي” ! كيف ذلك ؟؟؟
    في الواقع إن السيسي وجماعته يستجدون الغرب وعلى رأسه الدول المتحدة الأمريكية للتغطية على جرائمهم و الإعتراف بهم … و هم يشحذون الخبز والبطاطين … و يصدرون الغاز للكيان الصهيوني …و قد جاء (محبوب النساء) الناطق الرسمي للجيش “العربي” المصري ليبشرنا! (بنبرة قوية) أن قواته دمرت ثمانية أنفاق (8) تربط غزة بمصر يومي “الاستفتاء”! ، يومي
    “العرس الديمقراطي” ! الذي صادف يومه الأول ذكرى المولد النبوي الشريف… فهل تريد المزيد …
    ثم ، إذا كان مجرد حادث بسيط جعلك تغيير موقفك تجاه الإخوان المسلمين ، فلماذا تنكر ذلك على غيرك من الألآف ، حتى لا نقول الملايين ، من الذين ذاقوا من مجرايات و مخلفات و ويلات الانقلاب العسكري الفلولي ؟؟؟…

إشترك في قائمتنا البريدية