‘أبعد من الخير والشر’ في طبعته الشارونية

شاءت الصدف أن يأتي خبر موت شارون بينما كنت في زيارة لواشنطن. ورغم عدم وجود أوهام لدي بشأن إمكانية تناول الإعلام الأمريكي لمثل هذا الحدث على غير النحو المتوقع – حيث أن الإجماع منعقد لدى القوم بأنه كان على وشك إحلال سلام شامل دائم لولا أن عاجلت الجلطة ‘رجل السلام’ – فقد لفت انتباهي مبلغ التشابه بين ‘واشنطن بوست’ و’نيويورك تايمز’ في محدودية أفق التحليل رغم طول التقارير. والواقع أن ضلالات الليبراليين الغربيين واليسار الإسرائيلي بشأن شارون إنما تعود إلى بدايات 2001، عندما أخذوا يقولون لمن يريد سماعهم: إن الرجل تغير. لقد صار سياسيا جادا يتحلى بالمسؤولية ويرغب في تحقيق سلام لا يمكن لأحد غيره تحقيقه.
ولكأن شارون أراد التعجيل بإثبات صحة كلامهم فما لبث أن أعلن، بعد يومين فقط من 11 ايلول/ سبتمبر 2001، أن ‘عرفات هو بن لادن إسرائيل’! وأن ما تكبدته أمريكا أخيرا هو ما تقاسيه إسرائيل المظلومة المكلومة منذ عشرات السنين. بدائية في خياطة البروباغاندا؟ أي نعم. ولكنها أستاذية في انتهازية التوقيت. هذا فضلا عن التماسك في المواقف. لأنه إذا كان الساسة الفلسطينيون قد احتاجوا أعواما ليكتشفوا أن اتفاقيات أوسلو نكبة ثانية، فإن شارون قرر، فور إعلانها، أن أوسلو هي ‘أكبر كارثة حلت بإسرائيل’! ولهذا ناهض جميع اتفاقيات السلام من أوسلو (1993)، فواشنطن وكامب ديفيد، إلى مقترحات طابا (بداية 2001). ذلك أنه كان يعتقد دوما أن للفلسطينيين بلادا اسمها الأردن. فلماذا لا يقيمون ‘دولتهم’ هناك؟
على أن ثمة جانبا هاما يجدر بالعرب الاعتبار به. وهو أن شارون قد غير مجرى حرب أكتوبر 1973 بمفرده تقريبا بسبب عناده وعدم تهيبه من ركوب المخاطر. وتندرج هذه الحقيقة في سياق حقيقة أعم وأهم، هي انقلاب صورة اليهودي عن نفسه. فقد كانت لدى الأوروبيين على مدى القرون نظرة عنصرية عن اليهود باعتبارهم عاجزين فطريا عن القتال ومجابهة الموت. ولكن ما وقع أن إنشاء دولة إسرائيل قد حرر اليهودي من إسار هذه النظرة العنصرية. وهذا ما يفسر التواطؤ العميق الذي لا ينفصم بين يهود إسرائيل ويهود العالم، رغم أن كثيرا من هؤلاء لا يراودهم أي حنين صوفي إلى ‘أرض الميعاد’. أما الذي لا مراء فيه فهو أنه قد كان لشارون دور بارز في هذا الانقلاب الكبير على صعيد السيكولوجيا اليهودية.
وإذا كان ديفيد غروسمان يرى أن شارون ‘شخصية روائية’، بالمعنى الذي فصلناه الأسبوع الماضي، فإن الصحيح أيضا أنه كان روائي السيرة وروائي المصير بمعنى آخر. إنه المعنى الذي أشار إليه روجر آلفر عندما كتب أخيرا أن شارون كان يحظى مدة رئاسته للحكومة بمكانة فريدة لدى الرأي العام الإسرائيلي لم يحظ بها سواه. حيث أنه لم يكن ‘فوق الانتقاد’ فحسب، بل كان يعدّ فوق اليمين واليسار. بل حتى فوق الخير والشر! واستخدم آلفر حرفيا تعبير ‘أبعد من الخير والشر’، في استرجاع لعنوان كتاب نيتشه الشهير. لقد كان شارون ‘أقل رؤساء حكومات إسرائيل تدينا وأكثرهم نيتشوية، حيث لم يكن لديه أي مقدسات أو مبادىء ممتنعة على إعادة التفكير أو التعديل’. نظرة سياسية، بل وجودية، أحدث بها شارون ثورة (ثانية) في الوعي الإسرائيلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية