شرعية الاستفتاء واختبار السيسي والإخوان

الشرعية ليست مجرد صناديق، والديمقراطية ليست مجرد انتخابات، وليست ديكتاتورية الاغلبية او تجاهل الاقلية. هذا الكلام الذي قلناه للاخوان عندما كانوا في الحكم، حان ان نسمعه نفسه من النظام الجديد الذي يتأسس حاليا مع اعتماد الدستور بعد نتائج الاستفتاء التي تستحق قراءة متعمقة ومنصفة تتجاوز حالة ‘اليوفوريا’ الشعبوية التي تروج لها بعض الابواق الاعلامية. ولا نبالغ اذا قلنا ان مصر اليوم تواجه لحظة فارقة قد تحدد مصيرها في المستقبل المنظور الذي يعتمد الى حد كبير على اسلوب ترجمة النظام الجديد لنتائج هذا الاستفتاء.
وهذه محاولة لتلخيص ملامح هذه اللحظة التاريخية:
اولا- ان حدوث انتهاكات، كما اشارت 68 منظمة دولية ومحلية و17 الف مراقب للاستفتاء، تمثلت اساسا في حملات توجيه الناخبين (وهو ما اشرنا اليه الاسبوع الماضي) لا يمكن ان تكون مبررا للطعن في صدقية نتائج الاستفتاء، التي تشير الى رغبة شعبية جامحة في عودة الاستقرار، وهو ما يفسر الاقبال غير المسبوق من الشرائح الاضعف في المجتمع، النساء وكبار السن والمعوقين، حيث ان هؤلاء هم الاكثر معاناة في ظل التدهور الامني والاقتصادي خلال السنوات الثلاث الماضية. وبالعودة الى الاستفتاء الشهير في اذار/ مارس 2011، وهو اول استفتاء نزيه عرفته مصر منذ عقود، واجري بعد اسابيع قليلة من خلع نظام مبارك، نجد ان احدا لم يشكك في صدقية نتائجه، رغم انه شهد حملات شرسة من كافة الاحزاب الاسلامية والعلمانية لتوجيه الناخبين، اشهرها (قل نعم تدخل الجنة)، و(قل لا لاحزاب تورا بورا)، ورغم ان اغلبية (نعم) في ذلك الدستور تقل بنحو عشرين في المئة عن الاغلبية المتوقعة لنعم في هذا الاستفتاء. وبالتأكيد انه من الصعب ان تكون ‘حملات التوجيه’ سببا للمظاهرالحماسية التلقائية للتصويت في اليوم الاول، او ظاهرة الناخبات اللاتي توجهن الى اللجان قبل موعد التصويت بساعتين، ثم حول بعضهن الاستفتاء الى مناسبة احتفالية لم يغب عنها الرقص والزغاريد.
ثانيا ـ تبدو نسبة التأييد الواسعة للدستور متسقة مع حقيقة ان الذين قرروا تحمل مشقة التصويت، هم في الغالب من يدركون اصلا ان مجرد المشاركة فيه تمثل دعما لخارطة الطريق، وتأكيدا لشرعية النظام السياسي الذي انتجته. اما نسبة المشاركة التي تحوم حول الخمسين في المئة (كما تبدو حتى كتابة هذا المقال) فتبدو متسقة ايضا مع واقع (الخريطة الانتخابية) التي لا يكلف البعض نفسه عناء دراستها قبل ان (يفتي) في ما لا يعلم، حيث اننا امام دستور اجتمعت قوى سياسية ودينية ومجتمعية على السعي لانجاحه باستنفار قواعدها، بدءا من السلفيين والاقباط والنساء وصولا الى اليساريين والليبراليين وغيرهم، ناهيك عن النظام الحاكم نفسه. وهي لم تكتف بالدعوة للمشاركة بل نشر بعضها اعلانات تجارية للترويج لنعم، بل ووفر وسائل نقل جماعي للناخبين. كما ان نسبة المشاركة في استفتاء مارس 2011 لم تزد عن واحد واربعين بالمئة، رغم عدم وجود اي دعوات للمقاطعة او اتهامات بالتزوير. وتبدو هذه النسبة طبيعية مقارنة مع نسب المشاركة في الاستفتاءات في اغلب بلاد العالم. وهي ترجع في مصر خاصة الى المشاكل التقنية واللوجستية التي مازالت تعوق العملية الانتخابية حتى اليوم، وابرزها عدم تنقية جداول الناخبين من اسماء الموتى والمهاجرين، وصعوبة العثورعلى اللجان الانتخابية والوقوف في الطوابير الطويلة بالنسبة للكثيرين (خاصة مع عدم وجود اجازة رسمية في يومي التصويت)، وغياب وسيلة آمنة للتصويت عبر البريد او الانترنت. ثالثا- لا يلغي كل ما سبق حقيقة وجود اثر لقرار المقاطعة الذي اتخذته جماعة الاخوان وبعض حلفائها، الى جانب شريحة شاركت في مظاهرات 30 حزيران/يونيو(اشرنا اليها في المقال السابق) اغلبها من الشباب المحبطين والقلقين لاسباب عديدة، تبدأ من فشل النظام في تقديم رؤية واضحة خلال الشهور الماضية على جبهتي التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي، واكتفائه بالخيار الامني في مواجهة تعقيدات المشهد السياسي، ما جعلهم يتحفظون عن مشاركة قد يعتبرها البعض ‘شيكا على بياض’ للنظام الجديد. وهنا يتعين على النــــظام ان يعيد النظر في حساباته، بأن يدرس الوســــائل الكفيلة باقناع هؤلاء جميعا ومن دون استــــثناء (طالما لم يتورطوا في اعمال عنف) بدخول العملية السياسية كمعارضة وطنية ديمقراطية هو في امس الحاجة اليها الان، رغم ضجيج الابواق الاعلامية الذي يزين له اسكات معارضيه او استئصالهم او اغتيالهم معنويا، وكأن هذا سيجعلهم يختفون من الوجود.
فهل سينجح النظام الجديد في هذا الاختبار؟ أم سيعيد اخطاء من سبقوه باعتبار ان الشرعية المتمثلة في (صناديق الاستفتاء) تغنيه عن الوصول الى حالة من ‘التوافق المجتمعي’ هي في حقيقتها جوهر الديمقراطية ومغزاها.
رابعا ـ من الخطأ ان يجير النظام الحالي (شعبية نعم) في الاستفتاء الى شعبية شخص واحد، هو الفريق اول عبد الفتاح السيسي، رغم ان الكثيرين كانوا يرفعون صورته امام اللجان، حيث ان هذه القراءة تتجاهل ابعادا نفسية وتاريخية، وليس فقط سياسية، لعبت دورا حاسما في التصويت. فالمصريون توجهوا الى صناديق الاقتراع هذه المرة تحت وطأة تهديدات وتفجيرات، بل وفتاوى حرمت الاستفتاء، ما جعلهم يصوتون لعودة الشعور بالامن، الذي طالما كان جزءا اصيلا ومستقرا من ‘الوجدان المجتمعي المصري’ حتى في احلك الاوقات، كما انهم يشعرون بالحنين الى الدولة التي هي جزء من هويتهم، واثقين من انهم قادرون على التعامل مع مساوئها (وما اكثرها)، وان الزمن لن يعود الى الوراء، حتى مع عودة وجوه وسياسات قميئة من عهد مبارك الى الحياة مؤخرا.
خامسا ـ اما وقد اصبح ترشح الفريق السيسي متوقعا خلال ايام او اسابيع قليلة، فقد حان الوقت لينضبط الخطاب السياسي والاعلامي بشأن هذا الموضوع، خاصة في ظل وجود انفلات من ابواق عديدة يدعو بعضها الى ‘تنصيبه’ من دون انتخابات، بينما تعتبره جبهة فلولية مكونة من وجوه اغلبها يذكر الشعب المصري بعهد مبارك، مرشحا لها. ولعل السيسي نفسه بدأ يشعر بالخطر الذي يمثله هؤلاء عليه، وهو ما بدا واضحا عندما شدد في خطابه الاخير على ان ‘ما حدث في 25 يناير ثورة شعبية مجيدة’، الا ان هذا لا يبدو كافيا للجم هؤلاء ومنعهم من حملات الاغتيال المعنوي ضد من شارك او دعم تلك الثورة، ناهيك عن الاضرار بصورة السيسي نفسه.
والاهم ان يراجع الفريق السيسي ما قاله من انه يريد ان يترشح بـ’تفويض من الجيش’، حيث ان المؤسسة العسكرية لا يمكن ان تقول انها ستبقى بعيدة عن العمل السياسي، في الوقت الذي تفوض فيه قائدها لخوض الانتخابات، بل ان السيسي، ورغم شعبيته الواسعة لا يستطيع ان يقول انه يدخل الانتخابات مفوضا من الشعب. فالاصل ان يدخل المرشح الانتخابات طلبا لتأييد الشعب لبرنامجه وليس العكس. وليكن واضحا من البداية ان كان يترشح باسم الثورة واهدافها كاي مرشح مدني اخر يلتزم بالدستور تحت اي ظرف، أم باسم الثورة المضادة التي تحاول تجيير 30 يونيو لمصلحة ما قبل 25 يناير.
سادسا – ان جـــــماعة الاخوان بدورها اصبـــحت تواجه اسئلة لا تقل صعوبة ومنها، هل تبعث المظاهرات والاشتباكات الحالية وما تخلفه من دماء (مهمــــا كان انتماء صاحبها) بالرسالة الصحيحة عن رؤية الجماعة وبرنامجها او تخدم صورتها في هذا المفترق الحاسم؟ وهل ستنجح هذه الاستراتيجية المرهقة في اسقاط الشرطة والنظام؟
وهل يمكن ان تواصل الجماعة الحديث عن الشرعية كمبرر لها بعد الشرعية التي أسس لها الاستفتاء، ومن المتوقع ان تؤكدها شرعية انتخابات رئاسية ثم برلمانية؟ أم ان الاجدى هو اتخاذ قرار شجاع بمواجهة هذا النظام ديمقراطيا ومن داخله بالتحالف مع قوى شعبية وسياسية حقيقية، رغم الخلافات حول 30 يونيو، تصر على ان يكون الدستور الجديد درعا لحماية الثورة ومكتسباتها وليس سيفا للقضاء عليها؟
في الليلة الظلما يفتقد البدر، وفي لحظات فارقة كهذه يفتقد الزعماء، وتتحدد المصائر، ويصنع التاريخ في مصر.

‘ كاتب مصري من أسرة ‘القدس العربي’

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فؤاد الرفاعى:

    انا استغرب ان يعتقد الاستاذ خالد ان نسبة المشاركة فى 2011 هى حوالى 50%. العقل يقول انة بملاحظة التصويت فى الاستفتاء الاخير و مقارنتة بالخاص باستفتاء 2011 لا يمكن ان يدل على نسبة المشاركة المنسوبة لاستفتاء 2014 و التى تفوق النسبة فى 2011. ملاحظة اخرى تتعلق بان الظروف المتصلة باستفتاء 2011 سمحت بمبارزة حقيقية بين لا و نعم. ظروف استفتاء 2014 لم تسمح بوجود هذا الجدال. اعتقد ان هذا يؤثر سلبا على نسبة الاشتراك فى استفتاء 2014.

  2. يقول محمد نيويورك:

    سيدي لا تسرح بنا بعيدا ًانه انقلاب سمي الأمور باسماءها. الحل هو رجوع الشرعية. و نصب المشانق الانقلابيين اللذين سفكوا دماء الأبرياء

  3. يقول adam:

    الان تتحدثون عن التحالف وتتحدثون عن الاخوان ههههه يبدو انكم افقتم من نشوه السكر يعد اكتشفتم ان لامكان لكم بين العسكريين والنظام الجديد

  4. يقول علي مصر:

    شكرًا علي المقال الرائع . الشعب المصري وجه الضربة القاضية للإخوان. لا مجال للمصالحة او التراجع. منطق قيادات الاخوان القائم علي الإنكار والانكار كما يتضح من كلام السيد آدم كتب نهاية الجماعة . وسترون. وانا من ثوار ٣٠ يونيو وسأكون من معارضي النظام الجديد لان هدفنا مصر وليس تأييد شخص او حزب .

  5. يقول ابو علي- نيو جرزي USA:

    الى اللقاء في استفتاء جديد على دستور جديد.
    والحبل على الجرار.

  6. يقول حميد قدور، الجزائر:

    أعواد المشانق تنتظركم يا سفاحين

إشترك في قائمتنا البريدية