المخيم الفلسطيني ـ الشاهد والشهيد

ونحن نكتب هذه الكلمات يسقط شهيد جوع آخر هو جميل صالح القربي من مخيم اليرموك ليصل عدد من قضوا جوعا أكثر من أربعين بعد حصار محكم دام لأكثر من 180 يوما. موت بطيء موجع يقتلنا جميعا، ينخر في عظامنا ويكوي قلوبنا ويصفعنا جميعا على وجوهنا. موت يدين كل القيادات وكل الأطراف وكل الفصائل وكل الأيديولوجيات وكل الجماعات المسلحة والشبيحة والداعشيين وأضرابهم. موت يبصق في وجه كل الممانعين والمستسلمين والقومجيين والطائفيين والإسلامويين والليبراليين. يموت اللاجيء الفلسطيني من دون أن يكون طرفا في الصراع أو سببا فيه أو شريكا. عليه أن يدفع ثمنا من دمه إن أخذ موقفا أو لم يأخذ.. إن تعاطف أو لم يتعاطف.. إن صمت أو صرخ.. إن بقي في البيت أو حاول الهرب.. إن تعطلت الكهرباء أو نفد الطحين.. لا أحد يريده مقيما أو لاجئا أو عابر سبيل. المخيم مطلوب لأنه مخيم ولأنه الحاضنة الدافئة للذاكرة الجمعية لشعب شرد نتيجة مؤامرة نسجت في غيابه وشارك فيها لاعبون عرب وأجانب. قسموا وطنه ظلما وقهرا ورموه بالحقيبة وبطاقة التموين وقالوا اخرج من جنتك لتتسع للمهاجرين الجدد القادمين في معظمهم من البلاد العربية، التي ستمد الكيان الجديد بالبشر كي يقف على رجليه ويحل مشكلة الديموغرافيا التي كانت تهدد وجوده كليا لو سمح لذلك الشعب المقهور أن يلعب دورا حقيقيا في النضال بدل تلك الجيوش البدائية بأسلحتها الصدئة التي كان يديرها ويشرف عليها ويحركها ويدربها من صنعوا الكيان أصلا. تمزيق مخيم اليرموك العظيم بهذه الطريقة جزء من المؤامرة التاريخية على المخيم الفلسطيني الحاضن الأوفى للذاكرة التاريخية، والحامل لمشعل حق العودة لشعب عنيد، في وقت يتم الضغط فيه على قيادة رخوة أصلا لتمرير يهودية الدولة لطرد من تبقوا هناك وإلحاقهم بمن يقتلون جوعا هنا.
ظل المخيم الفلسطيني شاهدا حيا على المأساة التي لم يكن لها مثيل في التاريخ. ظل المخيم ينتج ‘زعترا ومقاتلين وساعدا يشتد في النسيان’ بانتظار فرصة يقوم فيها بتصحح التاريخ ووضع نهاية لمسلسل ‘التغريبة’ المرّ لشعب دفع ثمن هشاشة الأمة وارتباط معظم قياداتها. كلما فتحت عاصمة عربية له ذراعيها تعود وترميه بالحقيبة وتطرده، حتى ظن أن كل عواصم العروبة زبدا. ظل المخيم أمينا لرسالته، يرضع فيه الأطفال مع حليب أمهاتهم عشق الأرض التي ولدت فيهم ولم يولدوا فيها ونامت في حدقات عيونهم فسهروا عليها وأسقوها رحيق القلب حتى بدأ المخيم يفرز طوابير المناضلين الذين يعرفون كل شيء عن وطنهم. يعرفون من فرّط فيه ومن على استعداد أن يفرط، ومن ضحى من أجله ومن لديه استعداد أن يضحي. يعرف الأطفال فيه أسماء قراهم واحدة واحدة، ويعرفون أسماء الشعاب والجبال والينابيع والسهول. ويعرفون أسماء الأعشاب البرية جميعها، ما يستعمل طعاما أو شرابا أو دواء أو عطرا داخل البيت أو في الحاكورة الصغيرة. يعرفون برتقال يافا وموز أريحا وعنب الخليل وفراولة غزة وبلح النقب وزيتون نابلس وتين رام الله ورمان طولكرم وباذنجان بتير وصبر نعلين حتى لو لم يذوقوا منها شيئا. تمرنوا على العنفوان والكبرياء ورفض الذل والمسكنة وتقبيل الأيدي. وعندما لاحت لهم الفرصة للتمرن على عضلات البندقية أسرعوا إلى ذلك فطوعوها لإرادتهم وامتشقوا حب الوطن وصهيل الخيول والكلاشنكوف واتجهوا نحو وطنهم المحاصر والمطوق بأسلاك شائكة وحقول ألغام وأسوار. وكلما نجا مقاتل من عدوه الأساسي تصيده عدو آخر ينتظر عودته ليطلق النار عليه أو يقيم ألف حاجز في طريقه كي يتخلى عن الحلم الذي تربى عليه ويقبل بمنظمومة الفساد التي أوكلت مجموعة متخصصة من خريجي ‘مدرسة الفساد والإفساد’ لإدارتها.
كان المخيم ينمو في الغياب وينشئ جيلا صلبا متمسكا بوطنه. كان المخيم ينتج في الغياب المعلمين والفنانين والشعراء والكتاب ورسامي الكاريكتير والروائيين والحدائين والصحافيين وقيادات العمل الوطني. توزع الوطن كالشيفرة السرية بينهم وحملوه معهم إلى حيث ذهبوا لإعمار الصحارى العربية وإنشاء دول بعد اكتشاف البئر، فربوا أجيالا قومية تحب أوطانها وتعشق فلسطين وعلى استعداد أن تقاتل من أجلها. وبعد النكسة غصت قواعد الفدائيين بالمتطوعين من كل أرجاء العروبة، وحلم الوطن العربي الواحد من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر يجمعهم. كانوا يسعون من خلال طريق فلسطين الى أن يهدموا الوطن الذي فصله الاستعمار بين مقصلتين لبناء وطن جديد معافى يقام بين وردتين. كان لا بد إذن من قهر فكرة الوحدة في خندق النضال. فلا أعظم من حمل يولد في الخندق فيخرج مقاتلين عروبيين يؤمنون بأن السبيل إلى تحرير الأمة كلها يمر من فلسطين. هذه الفكرة البسيطة تطيرت منها القيادات الرخوة المساومة فكان لا بد من زرع اليأس في المخيم مصنع الرجولة ومنبت المقاتلين. كان لا بد من مهاجمة كل مخيم لتجتث منه فكرة التحرير والوحدة.
أعطوني اسم مخيم واحد لم يتعرض للقصف والحصار من العدو التاريخي أو من وكلائه المحليين. كم دفع الفسطينيون ثمن بقائهم في المخيم. ثمانية وخمسون مخيما يسكنها نحو مليونين. في زواريب المخيمات قامت الثورة ومن أرصفة المخيمات انطلقت الانتفاضة ومن غرف القصدير خرجت القيادات الصلبة ومن شظف الحياة خرج المبدعون من كتاب وشعراء وممثلين ومغنين ومقاتلين ورياضيين وموسيقيين. ظل المخيم مصدر وجع وإبداع. وظل العدو الرئيسي يصب قنابله الفوسفورية والعنقودية والفراغية فوق المخيم. وإن بقي شيء بحاجة إلى مجزرة فالضوء الأخضر يعطى للميليشيات التي ستنجز المهمة بالبلطات والسكاكين وصولا إلى سلاح الجوع والموت البطيء.
كان الهدف وما زال أن يدخل المخيم خيمة الطاعة ويقبل مساومة تاريخية ويتخلى عن بندقيته وحق العودة معا مقابل أن يعيش. وعندما ركبوا السفن من ميناء بيروت وأداروا ظهورهم للمخيم هرع القتلة ليلا ليضيء لهم شارون الطريق ليتقنوا عملية الإبادة. وعندما هرب ‘أزعر’ من سجون النظام السوري والتجأ إلى مخيم نهر البارد تم تدمير المخيم بالكامل، وعندما رفض القائد الميداني ‘أبو جندل’ الاستسلام داخل مخيم جنين هدم موفاز المخيم على رؤوس المجموعة التي آثرت أن تستشهد لا أن تستسلم. حتى العقيد القذافي لم يجد مخيما فلسطينيا يعتدي عليه، عندما أراد أن يثبت أن اتفاقية أوسلو لا تشكل حلا للقضية الفلسطينية، فتفتق خياله المريض عن طرد آلاف الفلسطينيين من ليبيا ورميهم في الصحراء على الحدود بين ليبيا ومصر لمدة تزيد عن السنتين، لا مصر تدخلهم ولا ليبيا تعيدهم فوقع المئات منهم ضحايا للبرد والمرض والعقارب. وعندما احتل بوش وديك شيني وكوندوليزا رايس بغداد، استغلت الميليشيات المسلحة الأوضاع وتوجهت ببنادقها لصدور الفلسطينـــــيين في حي الدورة والــحـــرية والبلديات ورمت بهم إلى الحدود التي أوصدت في وجهوهم لمدة تزيد عن السنتين إلى أن استقبلتهم بلاد بعيدة مثل البرازيل وتشيلي وآيسلندا وكندا.
ظل الهدف واحدا لدى الكيان ووكلائه داخل النظام العربي وهو أن يرفع المخيم الراية البيضاء ويتخلى عن حلم العودة ويطلب الحماية من الديكتاتور أو ينصاع لشروط الوكالة التي تقدم له، إن سمح لها، ما يقتات به فإن لم يقبل بذلك نهشم رأسه ونجوعه ونشرده ونقتله كي يستسلم.

صمت القيادة الفلسطينية غير المبرر

أغرب ما في جريمة تشريد وحصار ثم تجويع مخيم اليرموك هو الصمت المريب الذي لاذت به كل القيادات الفلسطينية المنبطح منها والمقاوم (إن كان هناك مقاوم)، المستسلم والممانع، بل هناك من اصطف مع الذين يحاصرون المخيم ويقصفونه منذ غرر بهم زعيم فصيل وأخذ بشباب المخيم ليقتل منهم 28 شاباعلى مدخل هضبة الجولان المحتلة في الذكرى الثالثة والستين للنكبة (15 أيار/يناير 2011) لتبييض صورة نظام لم يطلق طلقة واحدة على الجولان المحتل منذ احتلاله. تظاهر أبناء المخيم ضد هذا المسؤول واتجهوا إلى مكتبه كي يحتجوا على زج أولادهم بدون سبب في عملية لا تؤدي إلا إلى الموت، فما كان منه إلا أن فتح النار على المحتجين من أهالي الذين سقطوا في الجولان وأردى ثمانية إضافيين. منذ تلك اللحظة تم إقحام المخيم في حرب ليس طرفا فيها، وهذه هي النتيجة. فليرفع هذا الزعيم إشارة انتصاره على المخيم بعد تشريد أكثر من 800.000 من بينهم 180.000 فلسطيني وقتل المئات وحصار نحو 40.000 يموتون الآن موتا بطيئا من الجوع. وأود أن أؤكد لهذا الزعيم أن الفلسطينيين سيدفعون ثمنا غاليا حتى بعد حل الأزمة السورية وسيكون هناك من هو غير راض عن مواقف الفلسطينيين، وسيتهم بعضهم بأنهم كانوا مع النظام وقسم آخر سيتهمون بأنهم كانوا مع المعارضة.
ولكن لماذ تصمت القيادتان في رام الله وغزة؟ لماذا لا تنظم المظاهرات الألوفية والحملات العربية والدولية لإخراج المخيم من المعادلة؟ أين قيادات الفلسطينيين في لبنان والدول العربية؟ لماذا يتم التراخي في مسألة حيوية كهذه؟ لماذا تعطى العلاقة مع أي نظام أولوية على حساب الفلسطينيين؟ لماذا لا تأخذ أوضاع المخيم من الناحية الإنسانية فقط إلى المحافل الدولية؟ أسئلة كثيرة توجع القلب ولا نجد لها جوابا.

سبل الخروج من المأساة

أود أن أؤكد أن دم الفلسطيني ليس أغلى من الدم السوري وأن حديثي عن مأساة مخيم اليرموك لا يعني أنني أتجاهل الجرائم التي ترتكب بحق الشعب السوري العظيم، وقد كتبت في ذلك الكثير – كما أنني لا أنكر أن الفلسطينيين لقوا في الشعب السوري الحضن الدافئ منذ النكبة واعتمد قرار معاملتهم مثل السوريين عام 1951، ولذلك استطاعوا أن يشقوا طريق الإبداع والتعافي. لكنهم مثلهم مثل إخوتهم في سوريا عانوا من اضطهاد حكم سلطوي لا يرحم، فكان النظام يضطهد المعارض السوري والفلسطيني وقد يكون أقسى على السوري. لقد عاني الفلسطينيون الأمرين من النظام، سواء في مخيمات تل الزعتر وضبي في لبنان عام 1976، أو في حرب المخيمات عام 1987 التي قادها نبيه بري، بل إن أحد جزاري صبرا وشاتيلا أعيد تأهيله وأصبح وزيرا. كما أن حركة التصحيح داخل فتح التي قادها المناضل أبو موسى ما لبث النظام أن جيرها لصالحه وأفرغها من محتواها. وعندما رأى أن مصلحته في الاصطفاف مع حلفاء حفر الباطن هرع إلى هناك. وأضيف أيضا أن مأساة اليرموك يتحمل مسؤوليتها أكثر من طرف، خاصة أولئك الذين اتخذوا من المخيم مكانا يهاجمون فيه قوات النظام وهم يعرفون حجم الرد كيف يكون. وفي النهاية نؤكد أن حل أزمة اليرموك أصبح مرتبطا بحل الأزمة السورية ككل. ولا حل للأزمة إلا الحل السياسي. ولهذا كنا وما زلنا نعول على مؤتمر جنيف -2 بحضور جميع الدول الفاعلة ومن بينها إيران والسعودية كي يصل المؤتمر إلى صيغة تضمنها الدول الكبرى وتضغط على دول المنطقة وأطراف الصراع الأساسية بتنفيذها. هذا ما نتمناه رغم المطبات والعراقيل والألغام المزروعة على الطريق. فقدر سوريا أن تتشابك أبدا مع قضية فلسطين شعبا ومأساة وحلا.

‘ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول متابع ..غزة:

    اخي الد.بعد التحية ….ما يقلقني هو هذا العجز الذي نبديه كبشر مع قضية انسانية بامتياز ….ماذا ننتظر …..اليس من حل…. اليء من بديل ….صمت القبور ..هذا حالنا للاسف….اين الابداع في الحلول….الظروف التي نشأت فيها هذه المأساة لهل عوامل خارجية وداخلية……الخارجية التي تخص النظام ووحشيته التي لا تفرق بين سوري وفلسطيني…..وهل نراهن على حل المشكلة السورية حتىتحل قضية المحاصرين…..النظام لا يهمه موت الملايين …وممشغول بالمؤامرة الكونية….وما دامت كونية فبالطبع ستجني ملايين الضحايا على مذبح افشال المؤامرة….وهنا أسأل ….أين حلفاء النظام في صد المؤامرة الكونية عن سوريا الممانعة….يجب الضغط عليهم….ولكنهم اشرس من بشار على شعوبهم….فما الحل ….الحل يكمن في الداخل ….ومن متى يقف الفلسطيني امام مشكلة عاجزا….لايعمل ولا يبتكر …..العقل الفلسطيني مبدع ولا يرضى بالعجز …..لاتقفوا مكتوفي الايدي…وسيفتح الله عليكم….امريكا اخذت الكيماوي وانسحبت….ولن تنظر عليكم حتى لو متم جميعا…..لا تركنوا لاحد…..كلهم متامرون عليكم ….شدوا سواعدكم واعملوا عقولكم …. جدوا حلا ….لن ينفعكم احد….لا تستغيثوا احد
    ….ولا تستفزوا فيهم نخوة ….كلهم متامرون…لن تعدموا الوسيلة….

  2. يقول سامح // الامارات:

    * مأساة أهلنا ف ( مخيم اليرموك ) …جريمة إنسانية بشعة …
    ودمهم ف رقبة ( النظام السوري العفن ) …وف رقبة الجماعات المتطرفة
    التي لا تخاف الله …وف رقبة العرب والمجتمع الدولي الأعمى عن الحق ..؟؟
    * اللهم فرج ع أهلنا ف مخيم اليرموك …وفرج ع الشعب السوري الأبي
    وحسبنا الله ونعم الوكيل .
    شكرا …والشكر موصول للأخ الكاتب .

إشترك في قائمتنا البريدية