آراء سترو والمجتمع المتعدد الثقافات والأعراق

حجم الخط
0

آراء سترو والمجتمع المتعدد الثقافات والأعراق

د. يوسف نور عوضآراء سترو والمجتمع المتعدد الثقافات والأعراقعند ما زار الشيخ يوسف القرضاوي لندن بدعوة من عمدتها أثار البعض موضوع هذه الزيارة وطالبوا بعدم السماح للشيخ بمواصلة زيارته لبريطانيا، وكانت هذه المجموعة تعمل من خلال موقف عام يستغل موضوع الحرب علي الإرهاب لإلحاق قدر من الضرر بالمسلمين دون معرفة أن الشيخ القرضاوي ينطلق من مواقف وسطية وهو من أكثر المشايخ اعتدالا. ولكن ذلك أمر لا يهم هذه المجموعة التي أرادت أن توظف شهرة الشيخ من أجل أن تحقق الضرر لأغراض سياسية، ولكن موقف عمدة لندن الشجاع فوت الفرصة علي هؤلاء. ويجعلنا هذا الموقف ندرك أن البعض يستغلون موضوع الحرب علي الإرهاب والمواقف الموجهة ضد المسلمين لأغراض سياسية لا علاقة لها بالإرهاب، وبما أن الأمر أصبح له وجود ظاهر في بريطانيا التي عرفت باعتدالها وثقافتها الداعية لتعايش الثقافات والأعراق، فلا بد من التوقف عند هذا الأمر لمناقشته من زوايا عريضة، بعد أن ظهر أن المناخ الفكري والثقافي في بريطانيا قد تأثر كثيرا بعد تفجيرات لندن الأخيرة.وهنا أود أن أتوقف عند ما كتبه وزير الخارجية البريطاني السابق ووزير الشؤون البرلمانية الحالي جاك سترو بشأن ارتداء النقاب الإسلامي ولا ادخل في هذا الأمر من منطلقات فقهية ـ فليس هذا مجالي علي أي حال ـ بل أنظر اليه من زواياه الاجتماعية والثقافية والسياسية خاصة أن ما استوقفني في ما قاله جاك سترو أمران الأول قوله إنه يجد نفسه مضطرا لإيقاف شخص معه عندما تزوره في دائرته إمرأة محجبة وأيضا قوله إن كثيرا من النساء اللائي يزرنه يبدين تقديرا لرأيه عندما يطلب منهن خلع النقاب، وتبدو صدقية جاك سترو في قوله إنه لا يعترض علي لبس الحجاب أو غطاء الرأس لان هذين أمران يخصان المسلمات، اما النقاب فإن هناك قضايا أمنية تفرضها الظروف والتطورات الحالية تستوجب أن يكشف الإنسان عن وجهه وهو قول أيدته إحدي السيدات المسلمات العاملات في مجال القانون التي قالت إن كشف الوجه ضروري في مهنتي القانون والطب لأن الشخص يريد أن يتأكد من انفعالات الوجه كما يريد أن يكون علي ثقة من الآخر الذي يتعامل معه.ولم تمض أيام علي ما قاله جاك سترو حتي خرج رئيس الوزراء البريطاني توني بلير برأيه في تصريحات جاك سترو حيث أكد أن موقفه صعب ولكنه جدير بالمناقشة خاصة إذا عولج الأمر بطريقة محسوبة، وقال بلير إنه يمكن مناقشة هذه الأمور دون أن يصاب الناس بالانفعال، وهي دعوة متزنة لم يكدرها سوي ربط وكالات الأنباء بين تصريحات بلير وتصريحات سلمان رشدي التي لا رابط بينها وبين تصريحات رئيس الوزراء بكونها تعقد الموقف أكثر مما تحله بسبب المأزق الذي أدخل رشدي نفسه فيه عندما نشر كتابه الآيات الشيطانية ولا شك أن تعليق رشدي الذي قال فيه إن النقاب ينزع من المرأة قوتها يبعد كثيرا من تعليق توني بلير المتوازن ولا يؤدي إلي شيء سوي تأزيم الموقف ما جعل الربط بين الاثنين في خبر واحد يتم بطريقة غير خالية من الغرض. وهنا يجب أن نؤكد أن جاك سترو لم يكن في موقفه هذا راغبا في إتخاذ رأي في مسألة دينية بقدر ما كان يتحدث من منطلقات سياسية وأمنية وذلك يتضح من قوله إنه لا يعترض علي حجاب المرأة المسلمة بكون ذلك شيئا يتعلق بمعتقداتها ويؤكد ذلك أنه لم ينطلق من موقف معارض للتعاليم الإسلامية وهو في الأساس نائب لدائرة لا ينجح فيها من يتخذ موقفا مناهضا للإسلام.ولم يختلف موقف غوردون براون وزير الخزانة عن موقف كل من سترو وبلير فقد قال إن الحوار حول آراء جاك سترو عن الحجاب سوف يستمر لأنه يقع في منطقة يتشارك جميع البريطانيين في الاهتمام بها وأضاف براون إن اقتناعه الشخصي يؤكد له أن علي جميع الذين يعيشون في الأراضي البريطانية ويحصلون علي جنسيتها أن يتكلموا اللغة الإنكليزية ويجتازوا اختبارا في ذلك ولا ينال ذلك بالطبع من التنوع الثقافي في بريطانيا بل يـــؤدي إلي تقويته.ولا شك أن المواقف تتفاوت من القضايا التي تعرضنا لها من الجانبين، فهناك من اليمينيين من الذين لا يريدون حوارا أصلا مع الإسلاميين ويرون أن مكانهم ليس في الأراضي البريطانية وفي الجانب الآخر هناك أيضا من المتطرفين الإسلاميين الذين لا يريدون حوارا مع ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه ويتلخص مفهوم الحرية لديهم في شيء واحد هو أن يكونوا أحرارا في ممارسة عقائدهم بالطريقة التي يريدونها حتي لو تعارضت مع الموروثات الثقافية في البلد الذي يعيشون فيه، وهنا يجب أن نتعرض إلي بعض الحقائق المهمة بالنسبة للعيش في المجتمع البريطاني، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن هذا المجتمع من أكثر المجتمعات الغربية انفتاحا علي الأجانب وذلك ربما كان بسبب العلاقات الوثيقة التي ربطت بين البريطانيين ومستعمراتهم في الخارج وقدرتهم علي الاقتراب من ثقافات الشعوب التي حكموها. وذلك في رأيي سبب توافد الكثيرين للعيش في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية وكنا علي مدي زمن طويل نعرف أن سكان بريطانيا لا يزيدون عن أثنين وخمسين مليونا وفجأة قفز العدد إلي ستين مليونا ولا تفسر هذه الزيادة إلا بفتح باب الهجرة علي مصراعيه. وكانت بريطانيا من البلاد الأثيرة في الهجرة خاصة عند كثير من المهاجرين العرب بسبب استتباب الأوضاع السياسية وحصول المهاجرين وخاصة الذين يأتون بأسباب اللجوء علي مزايا لم يحصلوا عليها في بلدان أخري، وخلال هذه المرحلة بدأت بريطانيا دون جميع دول أوروبا والعالم الغربي تتحدث عن المجتمع المتعدد الثقافات بل وأنشأت خلال فترة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي مشروعا يسمي مشروع باركر الهدف منه تطوير دراسات اللغة العربية في الجامعات البريطانية، ولكن يجب أن نعترف أن الكثيرين من الذين هاجروا إلي بريطانيا من الخارج لم يكونوا علي استعداد لتمثل ثقافة البلد الذي هاجروا إليه ولا أعني بالتمثل تبني هذه الثقافة مقابل ترك ثقافة المهاجرين الأصلية بل أعني أن يقبل هؤلاء فكرة أنهم يعيشون في واقع ثقافي مختلف يتطلب منهم مجهودا من أجل التأقلم معه ولكن الكثيرين لم يعيروا ذلك التفاتا ولم يبذلوا مجهودا في تعلم لغة المجتمع الجديد والتعرف علي ثقافته. وهكذا أصبحوا هدفا سهلا لذوي الأغراض السياسية عندما حانت الفرصة للنيل منهم تحت شعارات محاربة الإرهاب والتطرف.وهنا يجب أن نقول إن مفهوم الحرية السائد في بريطانيا ليس الغرض منه استغلال هذا المفهوم لخدمة غرض واحد بل الغرض منه تقديم ثقافة الحوار علي كل شيء بمعني أن تعيش الثقافات المختلفة في إطار ديالكتيك مستمر لا أن تتنافر بكون التنافر يؤدي في النهاية إلي حالة من النزاع وهو ما يقود إلي التطرف والمواجهة من الجانبين. وتلك حالة من الفوضي تسعي لها بعض الأطراف المغرضة، وبالتالي حين ننظر في تصريحات مثل تصريحات جاك سترو فيجب أن ننظر إليها في إطار ثقافي صحيح ذلك أن جاك سترو عندما أطلق وجهة نظره لم يكن يريد أن يتخذ موقفا دينيا بل كان ببساطة يقول إذا دخلت علي سيدة منقبة لا استطيع أن أري وجهها فإن ذلك قد يوجد عندي حالة إرباك لأنني أتعامل مع شخص غير معروف لدي ويجب أن احمي نفسي منه بان يتم اللقاء في إطار حضور طرف ثالث والأفضل هو أن يتغير هذا الموقف برمته لكي يكون هناك تواصل بين النائب في بيئة بريطانية ومواطنيه. ولا شك أن فتح الحوار من هذا المنطلق سوف يوصل المتحاورين إلي نتيجة، أما الثبات علي المواقف عند الطرفين فهو لا يؤدي إلي شيء سوي استمرار النزاع والصراع. وفي تقديري أن اهتمام بعض وسائل الإعلام بتصريحات جاك سترو لم ينطلق من رغبة في الحوار بقدر ما كان محاولة لتأجيج النيران في وضع محتقن أصلا بسبب تطورات خارجة عن إرادة الكثيرين ولكنهم فجأة وجدوا أنفسهم في داخل صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وهنا يجب أن نؤكد أن المجتمع البريطاني كغيره من المجتمعات فيه تفاوت في الآراء والمواقف ولكن يظل هذا المجتمع من أفضل المجتمعات في تطبيق القوانين وفي التعايش بين جميع فئات المجتمع وفي الحصول علي الحقوق التي توفر للكثيرين سبل العيش الكريم، وتلك كلها أمور تستوجب المحافظة عليها في إطار نظرية المجتمع المتعدد الثقافات والأعراق لأنه بالتأكيد فإن الكثيرين ممن هاجروا إلي بريطانيا لم يأتوا لتغيير طبيعة المجتمع البريطاني أو إلغاء ثقافته بل جاؤوا للعيش فيه. وإن تباينت معتقداتهم وثقافاتهم وذلك ما يتطلب أن يلتزم الجميع بثقافة الحوار والتعايش السلمي لأنها الضمان الوحيد لسلام المجتمع الذي فيه من الإيجابيات أكثر مما فيه من السلبيات. وليعلم الجميع أن خدمة الثقافة ليس في جعلها مغلقة في غيتوهات خاصة أو في محاولة فرضها علي الآخرين وإنما في محاولة إظهار جوانب القوة فيها من خلال بيان قدرتها علي التعايش والتحاور مع الآخر المختلف وتلك مسؤولية وواجب يجب أن ترعاه سائر الأقليات في داخل المجتمع البريطاني من أجل المحافظة علي سلامه ووحدته، بكون المهاجرين ليسوا جزرا نائية في هذا المجتمع الجديد بل هم أشخاص ارتضوا العيش في مجتمع جديد عليهم أن يتعلموا كيفية التعايش معه وبنفس الوقت يجب أن يدرك المجتمع الجديد كيفية توفير الأمن لهؤلاء وعدم تشجيع التطرف والفكر المناهض لهم .9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية