الليبرالية الجديدة والمجتمعات الخليجية

حجم الخط
0

الليبرالية الجديدة والمجتمعات الخليجية

د. علي محمد فخروالليبرالية الجديدة والمجتمعات الخليجيةفي كتاب فرنسي بعنوان الصٍّراعات الجديدة بين الطبقات يتوصٌّل أربعة من الكتًّاب الذين تناولوا الموضوع في أربعة بلدان مختلفة، وهي فرنسا والهند وتشيلي والولايات المتحدة الأمريكية، إلي استنتاج واحد : لقد أدٌّي ضعف وتشرذم المؤسسات والقوي التي كانت في الماضي معنيًّة بحقوق الطبقة العاملة والفقراء، من مثل النقابات والأحزاب اليسارية، إلي دخول المجتمعات الأربعة في فراغ سياسي نتيجة لقلة وعي المواطنين الأفراد العاديين السياسي من جهة ونتيجة أيضاً لتحوُّل التعامل مع السياسة من نظرات ومطالبات كلية شاملة إلي مطالبات ونضالات تٌعني بقضايا جزئية من مثل البطالة أو تحسين أوضاع المعلمين أو منع خصخصة شركة معيُّنة. وبمعني آخر لقد ذهب زمن المطالبات التي تسعي لإحداث تغييرات اجتماعية جذرية كبري لتحلًّ محلها مطالبات فرعية صغيرة متواضعة. ولقد ترافق وجود ذلك الفراغ مع انبثاق فلسفة الليبرالية الجديدة التي ملأت ذلك الفراغ وثبًّتت العزوف عن إيديولوجيات السياسة وصراعاتها الكبري.ولما كانت الليبرالية الجديدة هي رديفة للسوق بكل أطيافه، إقتصاد السوق ومجتمع السوق وإنسان السوق وثقافة السوق وقيم السوق، فانها استطاعت أن تدخل إنسان المجتمعات المعولمة في دوامة اللٌهاث وراء متطلبات السوق القائمة علي التنافس والاستهلاك النًّهم والحركة التي لا تهدأ والعلاقات المزركشة الإعلانية المراوغة. والنتيجة هي إنسان مقولب، مطيع، مؤمن بالخلاص الفردي، وليس لديه الميل أو الوقت للتفاعل مع الآخرين أو الإهتمام بقضايا المجتمع والوطن.في اعتقادي أن ماحدث هناك يشبهه إلي حدٍّ كبير ماحدث في مجتمعات الخليج العربية عبر العقود الثلاثة الماضية. فمثلما ساهم السقوط المدوي للاتحاد السوفييتي السابق والاشتراكية الدولية في إحداث فراغ سياسي هائل في الكثير من المجتمعات، وعلي الأخص في الغرب، ساهم التراجع المفجع لمصر الناصرية وللمدٍّ القومي العربي والإشتراكي في إحداث فراغ سياسي في كل الأرض العربية. فكان أن ضعفت الأحزاب والنقابات وكل الحركات النضالية العربية بما فيها فروعها في مجتمعات الخليج. وبالطبع كان لسقوط الاشتراكية الدولية أيضاً تأثيرة الإضافي علي ماحدث من إنتكاسات سياسية في تلك المجتمعات.وبالرغم من أن القوي السياسية الإسلامية قد حاولت سدًّ ذلك الفراغ إلاًّ أن نجاحها في إعادة تفعيل المؤسسات النقابية والسياسية ظلًّ محدوداًَ، فكان لابدُّ أن يُملأ ذلك الفراغ الجزئي الذي ملأته الفلسفة الليبرالية الجديدة وقيم العولمة.قد يبدو ذلك مفاجأة لنا، ولكن التحليل المنطقي يشير إلي ذلك. لو تتبعًّنا التطورات الهائلة في دول الخليج العربية في العقود الثلاثة الماضية لوجدنا الملامح التالية : لقد أصبحت قوي السوق تلعب أدواراً متصاعدة في الإقتصاد. وقد ساعد علي ذلك التوسع في خصخصة مؤسسات الدولة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، ودخول البورصات كطرف أساسي في معاملات السوق، والإرتفاع الهائل في مضاربات وأسعار الأراضي والعقارات، وانتقال الدولة الخليجية التدريجي نحو إعتبار نفسها شركة تحتاج إلي أن تسوٍّق نفسها في الأسواق العالمية لكي تجتذب مزيداً من الاستثمارات، والزيادة الكبيرة في نوع وعدد وسرعة الصُّفقات والاتفاقيات والعقود فيما بين المؤسسات الاقتصادية والمالية نفسها وفيما بينها وبين الدولة الخليجية من جهة أخري. فكان أن انعكس كل ذلك علي دخول ظاهرة التنافس الدموي الحاد بما يرافقه من توترات نفسية واجتماعية حادة وكذلك علي دخول ظاهرة تفصيل حياة الفرد لتلائم متطلبات السوق. فشكل الفرد وملبسه وتصرفاته وسكنه وسيارته وناديه وشلله يجب أن تخدم مكانته ونجاحاته في عالم الأسواق وفي عالم الحصول علي وظيفة.والخلاصة أن جميع ما حدث في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والشخصية في دول الخليج العربي يصبُّ في أهداف ووسائل الفلسفة الليبرالية الجديدة. فقاد كل ذلك إلي فاجعة إنقلاب الطبقة المتعلمة الخليجية من جماعات تناضل من أجل التغييرات الحياتية الكبري إلي جماعات تنضوي تحت جناحي الدولة وقوي السوق.9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية