خمسون عاماً علي حرب السويس (2 من 3)

حجم الخط
0

خمسون عاماً علي حرب السويس (2 من 3)

ايدن حاول اقناع فرنسا باتلاف نسخة الاتفاق الثلاثي حتي لا تدان بريطانيا.. ونوري السعيد حرضه بقوة لضرب عبد الناصراعلان ناصر التأميم في الاسكندرية كان يوما تاريخيا وبداية النهاية المذلة لأكبر قوتين استعماريتين: بريطانيا وفرنساخمسون عاماً علي حرب السويس (2 من 3)رياض نجيب الريس أسرار التواطؤ بين بريطانيا وفرنسا واسرائيللماذا أراد ايدن اتلاف اتفاق سيفر ؟تفترض بعض المصادر البريطانية والفرنسية وسواها، وخصوصاً وزارة الخارجية البريطانية التي فتحت معظم ما في خزائنها وأرشيفها من وثائق أمام الباحثين (بموجب القانون الذي يتيح الاطلاع علي أوراق الدولة بعد 30 أو 50 سنة علي مرور زمنها)، كما تتفق معها مصادر اخري، في ان حكاية أزمة السويس من الجانب البريطاني، قد بدأت في دائرة وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد الانتخابية في بلدة ويرال في مقاطعة شيشاير . وكان ذلك يوم 21 تشرين الاول/ اكتوبر من عام 1956، عندما استدعي لويد من دائرته الانتخابية الي تشيكرز المقر الريفي لرئيس الوزراء البريطاني السير أنطوني إيدن. هناك، امره إيدن بالتوجه فورا الي باريس للاشتراك في اجتماع سري، هذا الاجتماع الذي ارتبط فيما بعد بأكبر كذبة في تاريخ بريطانيا المعاصرة، حمل سلوين لويد وزرها الي الأبد. وهزت ازمة السويس منذ تلك اللحظة الشرق الاوسط كما يعرف قبل نصف قرن، ومعه الامبراطورية البريطانية ومستعمراتها.في اليوم التالي سافر سلوين لويد سرا، برفقة سكرتيره الخاص دونالد لوغان، من مطار قاعدة هيندون العسكري، الي مطار صغير يقع خارج باريس. وكانت الرواية التي استعملت لتغطية غياب الوزير لدي وزارة الخارجية البريطانية ان لويد معتكف لاصابـــــته برشح. لكـــــن وجهة سفر لويد الحقيقـــية كانت فيلا في ضواحي سيفر Sevres للاجتماع بممثلين لكل من فرنسا واسرائيل، حيث جري التآمر للهجوم علي مصر. وهناك ارتكبوا الغلطة التاريخية حيث سجلوا ما اتفقوا عليه في وثيقة وقعوا عليها، سميت عند اكتشافها فيما بعد، بـ اتفاق سيفر .عندما عرف انطوني ايدن رئيس الحكومة، ان ما دار في اجتماع سيفر قد سُجّل، امر فورا باتلاف النسخة العائدة لبريطانيا. وعلي الرغم من ان خبر هذه الحلقة التآمرية كان قد عم وشاع، الا ان الاتفاق ـ الوثيقة لم يظهر للعلن الا بعد 40 سنة كأداة جرمية علي التآمر، حتي ان احد مؤرخي تلك الفترة قال ان هذا الاتفاق هو أفضل وثيقة لخطة حرب في التاريخ المعاصر . ويروي لوغان (88 سنة) وهو الحي الوحيد الباقي من الذين حضروا اجتماع سيفر ، ان لويد كان في أتعس حالاته، متضايقاً من تكليفه هذه المهمة. وكان أحد أهم أسباب الضيق الذي شعر به لويد، هو أنه كان يقوم بتنظيم حملة اتصالات ديبلوماسية مع الرئيس جمال عبد الناصر منذ تأميم شركة قناة السويس في 26 تموز (يوليو) لمنع تهديد مكانة بريطانيا ومصالحها في المنطقة، وعلي رأسها امدادات النفط الي أوروبا. وجاء هذا الاجتماع ليقضي علي خطة لويد الديبلوماسية. كل هذا في الوقت الذي كان فيه ايدن قد روكبَ علي عبد الناصر، فساعة يقارنه بهتلر وساعة أخري يشبهه بموسوليني.كان مبعث الخوف لدي الغرب من الاستيلاء علي قناة السويس هو أن تكون بداية حملة لطرد النفوذ الغربي كلياً والمصالح الغربية نهائياً من البلاد العربية. كما كان الخوف المعلن في الولايات المتحدة في أيلول (سبتمبر)، هو أن يؤدي نجاح تأميم القناة الي قيام وحدة عربية بزعامة مصرية ورعاية سوفييتية. وكان هذا هو رأي الرئيس الامريكي الجمهوري دوايت أيزنهاور الذي كان يصرح به. الا أن الجنرال الامريكي وبطل الحرب العالمية الثانية، كان يريد تطويق هذه المخاوف الغربية بوسائل سياسية وبحلول سلمية لا بواسطة عمل عسكري.في أواسط تشرين الأول (أكتوبر) بدت الحرب وكأنها أمر لا مفر منه، بالدرجة الأولي بسبب التعنت الذي كان يمارسه التحالف بين فرنسا واسرائيل، اللتين كانتا تدعوان الي حرب وقائية علي مصر، وخاصة اسرائيل التي تعرضت لسلسلة من المناوشات علي الحدود المصرية ـ الاسرائيلية في الأشهر التي سبقت تأميم القناة. أما غي موليه، رئيس وزراء فرنسا الاشتراكي، فقد كان مستقتلاً لايقاف مصر عن دعم ومساعدة الثورة ضد فرنسا في الجزائر. وكانت الاتصالات الفرنسية ـ الاسرائيلية تتم عبر قنوات خلفية في باريس وتل أبيب، بواسطة وزير الدفاع الفرنسي موريس بورغيس ـ مونوري، أحد أبطال المقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا، ووزير الخارجية الفرنسي كريستيان بينو، الذي سجن خلال الحرب العالمية الثانية في أحد المعتقلات النازية في بوشنوالد، وبحكم هذه الخلفية السياســـــية المعادية للنازية لكل من الرجلين، كان هذا التعاطف الفرنسي مع اسرائيل في حرب السويس. أما بريطانيا، ولم يكن قد مر علي انسحابها من فلسطين الا ثماني سنوات، فكانت بالمقابل ترتاب كثيراً من أية علاقة بـاسرائيل، الي درجة أنها كانت تعد لخطة هجومية علي اسرائيل اذا شنت هذه حرباً علي الأردن. فرنسا ودور الخاطبةوسط هذا التناقض في المواقف من اسرائيل بين الحميمية الفرنســــية من جهة والبرود الانكليزي من جهة ثانية، جاءت فرنسا لتــــقوم بدور الخاطبة التي قربت بين لندن وتل أبيب، لتربطهما في مصلحة واحدة ضد مصر عـــــبر اتفاق سيفر .وكان ايدن قد عقد اجتماعاً سرياً في 14 تشرين الأول (أكتوبر) مع مبعوثين فرنسيين، شطبا اسميهما من دفتر الزوار في مقره الريفي في تشيكرز بأمر منه. ونبه ايدن سكرتيره الخاص، غاي ميلارد، الذي حضر اللقاء، الي عدم تدوين ما دار في الاجتماع، محذراً بأن لا داعي لذلك ــــ كما جاء في مذكراته. وبعد ثمانية أيام من هذا اللقاء، وصل سلوين لويد الي منزل في شارع امانيول جيرو في باريس، كان يستعمل بيتاً سرياً في الحرب العالمية الثانية لاخفاء رجال المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، ليجد أن اجتماعاً قد بدأ بحضور دافيد بن غوريون رئيس وزراء اسرائيل وموشي ديان وزير الدفاع، اللذين كانا كلاهما يشككان بنوايا بريطانيا وسياستها. ولفت نظر لويد أن ديان أخذ يرسم علي ظهر علبة سجائر خطة عملية غزو القناة. ويقول مورداخاي بار ــــ أون، مساعد ديان، وأحد الباقين علي قيد الحياة منذ ذلك الاجتماع، ان الوجوم قد خيم علي وجه لويد، وكأنه شعر بمغص حاد معتبراً أن المشهد كله كان بشعاً.في 24 تشرين الأول (أكتوبر)، عاد وزير الخارجية الفرنسي كريستيان بينو الي باريس من زيارة لايدن في لندن، حيث وضع الفرقاء الثلاثة بروتوكولاً بالفرنسية طبع علي الآلة الكاتبة في مطبخ البيت اياه. وتتعهد اسرائيل بموجب هذا البروتوكول بالهجوم علي مصر، وأن تتخذ بريطانيا وفرنسا هذا الهجوم ذريعة لغزو مصر تحت ستار فصل المتحاربين لحماية قناة السويس. وكان فصل المتحاربين يعني في هذا البروتوكول اسناداً ودعماً جوياً وبحرياً للقوات الاسرائيلية من بريطانيا وفرنسا أثناء هجوم اسرائيل علي مصر. وكان من المفترض أن تبقي وثيقة هذا الاتفاق سرية للغاية ، وقد وقعها عن الجانب البريطاني باتريك دين، كبير موظفي الخارجية البريطانية في حينه، الذي وجد أن جو الاجتماع لم يكن ودياً بما فيه الكفاية. وما ان غادر الجانب البريطاني الاجتماع، حتي بدأت محادثات بين فرنسا واسرائيل في البيت نفسه حول التعاون النووي بين البلدين.عند عودة الوزير البريطاني الي لندن، أمر ايدن بـاتلاف البروتوكول المكتوب، قبل أن يجف حبر التواقيع عليه، وأحرق نورمان بروك أمين عام الحكومة، النسخة البريطانية من الاتفاق، مع أوراق أخري لها علاقة بالتآمر الثلاثي كيلا يبقي شيء يدين بريطانيا. أحرق نورمان بروك هذه الأوراق في مدفأة 10 داونينغ ستريت مقر رئاسة الوزارة البريطانية. وفي الوقت نفسه، أمر ايدن عضو الوفد البريطاني الذي جاء بنسخة البروتوكول الانكليزية، بالعودة فوراً الي باريس لاقناع الجانب الفرنسي بحرق النسخة العائدة لهم. لكن الفرنسيين تركوا الوفد البريطاني ينتظر لساعات طوال في غرفة الانتظار في الكي دورسيه ، قبل أن يقابله بينو. واعتذر وزير الخارجية الفرنسي للبريطانيين عن احراق نسخة بلاده من البروتوكول. أما الجانب الاسرائيلي فكان قد غادر باريس عائداً الي بلاده حاملاً نسخته من الاتفاق قبل وصول الديبلوماسيين البريطانيين. وعاد الوفد الي لندن بخفي حنين.ولم يعد من الممكن الحفاظ علي سر ايدن، فمنذ أن بدأت اسرائيل بالهجوم علي صحراء سيناء في 29 تشرين الأول (أكتوبر) حسب الجدول المتفق عليه، اعتبرت كل الأوساط السياسية المراقبة في العالم أن هذا الهجوم معد سلفاً، وأن التواطؤ بين بريطانيا وفرنسا واسرائيل واضح جداً في العمليات العسكرية، حتي ان ديبلوماسياً في السفارة البريطانية في واشنطن اتصل بلويد عشية بدء الهجوم، ليقول له ان سي.آي.اي. لديها معلومات مؤكدة عن هذا التواطؤ، وأنه، أي الديبلوماسي البريطاني، يحتاج الي معلومات من وزيره لدحض تهمة التواطؤ لدي ادارة أيزنهاور الامريكية. حتي ان أيزنهاور قال لوزير خارجيته جون فوستر دالاس، ان بريطانيا قد خدعته . في الوقت نفسه، حافظ لويد علي موقفه في نفي تهمة التواطؤ عن رئيسه وحكومته في مجلس العموم. وكرر ايدن نفيه كاذباً في مجلس العموم، ليؤكد أن ليس هناك أي اتفاق مسبق مع فرنسا واسرائيل للهجوم علي مصر. وكان ذلك في 20 كانون الأول (ديسمبر)، آخر مرة يقف فيها ايدن في مجلس العموم، قبل أن يقدم استقالته.ويقول بار ــــ أون، مساعد ديان، الذي احتفظ بمذكرة تفصيلية عن اجتماعات سيفر ، والتي بقيت سرية لمدة 35 عاماً، احتراماً لموقف وذكري ايدن، ان بن غوريون خصوصاً واسرائيل عموماً، لا سبب لديهما للحفاظ علي سرية هذا الاتفاق. وكان بن غوريون يقول ان من مصلحة اسرائيل أن تعلن عن اتفاق سيفر وتنشر تفاصيل البروتوكول حتي لا تبدو وكأنها هي وحدها التي قامت بهذا الاعتداء. الا أن لوغان، سكرتير لويد ابان الأزمة، حصل بعد سنوات عديدة علي نسخة من اسرائيل عن بروتوكول سيفر وأودعها في الأرشيف الوطني البريطاني في منطقة كيو في لندن. وبذلك اكتملت وثائق مرحلة حرب السويس. وقد وصف أحد المؤرخين هذا الاتفاق بأنه صورة عن انتهازية فرنسا، وتحايل بريطانيا، وهلع اسرائيل .ويروي أحد مؤرخي تلك الفترة، في اشارة الي اختلاف السياسات والنتائج بين كل من بريطانيا وفرنسا، أنه في مصادفة عجيبة كان كونراد أديناور مستشار ألمانيا الغربية، في زيارة لباريس في 6 تشرين الثاني (نوفمبر ) 1956، للتفاوض بشأن معاهدة روما التي أوجدت السوق الأوروبية المشتركة وأسست فيما بعد للاتحاد الأوروبي. وبينما كان أديناور جالساً عند غي موليه، رئيس الحكومة الفرنسية، اتصل أنطوني ايدن رئيس الحكومة البريطانية هاتفياً بنظيره الفرنسي، ليبلغه أنه قرر التراجع عن استمرار الحرب في السويس وأنه وافق علي وقف لاطلاق النار بناء علي ضغط امريكي لم يستطع مقاومته، أدي الي انهيار الجنيه الاسترليني، بعدما رفضت واشنطن اقراضه من صندوق النقد الدولي. وصرخ أديناور عندما أبلغه موليه بما قاله ايدن: لا وقت لنضيعه. الآن هو وقت بناء أوروبا . أوروبا ستنتقم لكم . وكانت لحظة تاريخية لا مثيل لها.يقول كيث كايل، أحد أهم مؤرخي أزمة السويس، ان المشكلة في اجتماعات سيفر ليست في أنها كانت سرية، والسرية جزء من العمل الديبلوماسي، ولا لأنها كانت مع اسرائيل، ولاسرائيل قبول واسع في أوساط المعارضة الرسمية واليسار في عام 1956، ولا لأن الموقف السياسي الذي اتخذته قد فشل، بل المشكلة هي ان سقوط الاتفاق وفشله يعود الي سببين. الأول أن بريطانيا كانت العنصر الأساسي في الاعتداء بصفتها الأكبر والأهم. والثاني أن الحكومة البريطانية كذبت علي شعبها ونوابه وأحزابه ونقاباته اذ نفت التواطؤ، وزعمت أن دعوة القوات البريطانية الي اعلان الحرب كانت دفاعاً عن مصالح بريطانيا، وقد تم ذلك بالخديعة والمواربة والكذب حتي النهاية. حكاية العشاء الأخير في داونينغ ستريت ماذا قال نوري السعيد لايدن يوم تأميم القناة؟ وضعت أزمة السويس قبل خمسين سنة، حداً فاصلاً بين عهدين. عهد انتهي وعهد بدأ لكل من بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط. أما ما حدث نتيجة لذلك في العالم العربي فكان البركان الذي فجر الانقلابات والثورات علي الأنظمة الحاكمة وغير ما غير من تحالفات العرب مع دول العالم، أكثر مما غير من حكامه. كانت أزمة السويس بداية نصف قرن من صراعات وحروب وغزوات واغتيالات أدت الي الصورة التي نحن فيها اليوم.حكمت بريطانيا مصر من عام 1882 الي عام 1922، عندما مُنحت استقلالاً صورياً، استمرت بريطانيا من خلاله في حكم مصر وتقرير سياستها والحفاظ علي قوات عسكرية في أراضيها، وخاصة في منطقة القناة، ودعم النظام الملكي، حتي قيام جمال عبد الناصر بثورته في 23 تموز (يوليو) عام 1952. ومَنْ يقرأ اليوم خطاب عبد الناصر في الاسكندرية الذي ألقاه يوم تأميم القناة في 26 تموز (يوليو) 1956، يجد فيه وبعد كل هذه السنين، مطالعة تاريخية لماضي مصر ودور الاستعمار الأوروبي في ما آلت اليه أوضاعها من سوء عبر حكاية القناة، مردداً اسم المهندس الفرنسي فيردينان دو لاســـبس ثلاث عشرة مرة في خطابه، لا تذكيراً بأمجاده أو تكريماً له، بل كنوع من الاشارة المرمزة الي مَنْ كلفهم القيام بعمليات التأميم والسيطرة علي منشآت القناة. وكان هذا اليوم التاريخي بداية النهاية المذلة لأكبر قوتين استعماريتين أوروبيتين هما بريطانيا وفرنسا.وأخذت حجارة الأمبراطورية تنهار. فقد أنطوني ايدن رئيس الوزراء البريطاني مركزه واستقال. تفككت الجمهورية الرابعة في فرنسا وعبر منها الجنرال شارل ديغول الي الجمهورية الخامسة. كانت اشارات الانهيار واضحة حتي لغلاة الاستعماريين، عندما أضحت امريكا هي القوة العظمي المسيطرة علي التحالف الغربي. وبدأ السعي عند العديد من الأوروبيين نحو ايجاد قوي أوروبية بديلة أصبحت فيما بعد كيان الاتحاد الأوروبي، كما نعرفه اليوم.في الجانب الآخر، دفعت أزمة السويس بفكرة القومية العربية الي الانتشار، وحولت القضية الفلسطينية الي صراع عربي ـ اسرائيلي. انما الأخطر أن أزمة السويس قد ألهت العالم عما كان يجري داخل دول أوروبا الشرقية التابعة للاتحاد السوفييتي، مفسحة في المجال لموسكو لاخماد ثورة المجر وقمع شعبه في الوقت ذاته من عام 1956، حيث كانت أنظار العالم موجهة نحو الشرق الأوسط. من سخرية التاريخ، أن ايدن عرف بقرار تأميم عبد الناصر لقناة السويس ليلة 26 تموز (يوليو) 1956 بالذات خلال عشاء كان يقيمه في 10 داونينغ ستريت ، علي شــــرف الملك فيصل الثاني ملك العراق، الذي كان في زيارة رسمية لبريطانيا.كان ذلك عندما دخل عليه سكرتيره الخاص عند الساعة العاشرة ليلاً، ليخبره بما قاله عبد الناصر في خطابه بالاسكندرية. ونهض الجميع من العشاء ليتفرقوا في الغرف الجانبية لمقر رئيس الوزراء البريطاني، يتبادلون الآراء في هذا الحدث الخطير.وكان من بين المدعوين الي العشاء، الي جانب ملك العراق الشاب، الوصي علي العرش الهاشمي السابق وولي العهد في حينه، خال الملك الأمير عبد الاله، ورئيس الوزراء العراقي نوري السعيد. كذلك كان هناك أربعة وزراء أعضاء في حكومة ايدن، بينهم سلوين لويد وزير الخارجية وأيضاً زعيم حزب العمال المعارض هيو غيتسكيل، بصفته زعيم المعارضة الرسمية، وعدد من كبار شخصيات المؤسسات البريطانية الحاكمة. وما ان انتهي العشاء حتي طلب ايدن استدعاء عدد من الوزراء من غير المدعوين ورئيس أركان القوات المسلحة وبعض كبار العسكريين، الذين كانوا موجودين ذلك المساء في مناسبات اجتماعية أخري في أنحاء متفرقة من العاصمة البريطانية، للتداول في قرار التأميم. وكان جو الاستشارات بعد ذلك العشاء، حامياً ان لم يكن حماسياً، وكان هناك شبه اجماع علي ضرورة التصدي لخطوة تأميم القناة.كان الشعور السائد في تلك الاجتماعات، أن عبد الناصر بعمله هذا قد وضع يده علي زلعوم بريطانيا ولن يتردد في خنق مصالحها في الشرق الأوسط، حتي ان زعــيم المعارضة هيو غيتسكيل قال في مداولات ذلك المساء، ان الرأي عام البريطاني سيؤيد أي عمل قوي وسريع ضد عبد الناصر.وشارك نوري السعيد، رئيس الحكومة العراقية، غيتسكيل الرأي، وقال لايدن وهو يغادر 10 داونينغ ستريت في الهزيع الأخير من تلك الليلة، بأن عليه أن يضربه (أي عبد الناصر) بقوة. ولم ينس ذلك الثعلب السياسي العتيق، أن يحذر ايدن من أن تقوم بريطانيا بأي عمل عسكري ضد مصر بالتواطؤ مع اسرائيل.لكن ما كان من أنطوني ناتينغ، وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية (الذي استقال فيما بعد احتجاجاً علي سياسة ايدن وأصبح من كبار أصدقاء عبد الناصر وكتب كتاباً هاماً عنه) الا أن قال، موجهاً كلامه الي نوري السعيد: ان هذا جنون . وكان نوري السعيد أخلص أصدقاء بريطانيا في الشرق الأوسط. ومرت سنتان علي حرب السويس قبل أن يقتل الملك والوصي ونوري السعيد سحلاً في شوارع بغداد عند قيام الثورة العراقية في 14 تموز (يوليو) من عام 1958، ومن قبل أن يصل البعث الي السلطة في عام 1963 .كثيرون من أفراد الشعب البريطاني كانوا يشاركون، ولو بغصة أو علي مضــــض، هذه المقولة. وكما عبر أنطوني ناتينغ، وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية بقوله: لقد جعلنا في أزمة السويس من عبد الناصر شهيداً وبطلاً، ورفعناه الي سدة المجد وجعلنا له مكانة وقوة ما كانت لأحد في العالم العربي منذ مطلع القرن التاسع عشر .بوصول عبد الناصر الي قمة سلطاته واتساع نفوذه، بدأت الحكومة البريطانية، عبر سفاراتها في الخارج، تعد الخسائر التي منيت بها مصالحها وسياستها وتحسب حساب المزيد من الأضرار التي ستلحق بها، وقد أخذ اسم عبد الناصر يهدر عبر المنطقة، من تونس الي الدار البيضاء، ومن بغداد الي عمان والقدس، ومن دمشق الي عدن والبحرين وسائر بلدان الخليج. وخرجت الجماهير العربية في كل مكان فيه وجود بريطاني علي أرض عربية تندد بالمجازر التي ارتكبتها القوات البريطانية في بورسعيد. وازداد خوف بريطانيا بازدياد حجم عبد الناصر، حتي ان أحد الديبلوماسيين البريطانيين كتب يقول: ان عبد الناصر جعل صوت نبضات قلب القاهرة يُسمع في كل عاصمة عربية، من المحيط الأطلسي الي الخليج الفارسي ، حتي ان ملك الأردن، الملك حسين، الذي كانت تمول الخزانة البريطانية مملكته في ذلك الوقت، شبه ما حدث في المنطقة بعد السويس بــ صاعق كهربائي قوي مس البلاد ، حتي ان المخابرات البريطانية اتهمت بعد مرور وقت طويل علي انسحاب بريطانيا وفرنسا من منطقة قناة السويس، عبد الناصر بأنه كان يدفع بواسطة عملائه مبالغ مالية نقداً وبــ الشنط الي سياسيين عرب لزعزعة أنظمة الحكم في بلادهم.وبدأ تراكم الخسائر البريطانية. في شباط (فبراير) 1958 أعلن عبد الناصر الوحدة بين مصر وسورية تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة. وبعد أشهر، في تموز (يوليو) 1958 قامت الثورة العراقية في بغداد التي قضت، في حمام دم، علي الأسرة الهاشمية المالكة، معلنة قيام الجمهورية علي غرار الطراز المصري، قبل أن يسرق حزب البعث تلك الثورة ويورثها لنظام صدام حسين.سجل الانسحاب المذل لكل من بريطانيا وفرنسا من غزو قناة السويس بالتواطؤ مع اسرائيل، قبل نصف قرن نقطة مفصلية في تراجع بريطانيا السياسي وبداية تفكك امبراطوريتها المترامية الأطراف. فكانت النتيجة أن ألزمت بريطانيا نفسها عدم القيام بأي عمل عسكري خارجي من دون اذن الولايات المتحدة، كذلك موافقة الأمم المتحدة ان أمكن. وكان الانقسام الحاد الذي أحدثته حرب السويس في المجتمع البريطاني، بين الاستعماريين القدامي الذين يؤمنون باستعمال القوة لحماية ما يعتقدون أنه لمصلحة بلادهم وبين المتحررين الجدد الذين يرفضون استعمال القوة ويدعون الي التخلي عن المستعمرات وتحرير شعوبها، (مع العلم أن ذكريات الامبراطورية ومستعمراتها كانت لا تزال طرية في عام 1956، وأنه لم يكن قد مضي علي استقلال الهند ـ جوهرة التاج البريطاني ـ في عام 1947، أكثر من عقد واحد من الزمان). وقد تكرر هذا الانقسام، بأطياف مختلفة في عام 2003 عند الغزو الامريكي للعراق. فمن كان معادياً للاستعمار في عام 1956، سُر لهزيمة بريطانيا في السويس، لاعتقاده أن الامبراطورية كانت ظالمة ومستغلة لشعوبها، كان معارضاً أيضاً للغزو الامريكي ـ البريطاني للعراق. غدا:التشابه بين ايدن وبليرمن مصر الي العراق7

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية