الكويت: جدل الولاءات والمصالح يعيد معركة الخلافة للواجهة

عندما قال الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل ان ‘الأحداث التاريخية الكبرى قد تتكرر مرتين’ لم يكن يتوقع أن فيلسوفا آخر هو كارل ماركس سيكمل العبارة بالشطر التالي ‘أحدها على شكل مأساة والثاني على شكل ملهاة’. وفي المشهد السياسي الكويتي لن تجد فرقا كبيرا، فالوضع مأساة وملهاة في نفس الوقت، ويتكرر مرتين من دون أن يقرأ بشكل جيد، وتلك سمة لا يمكن فهمها إلا من خلال وصية أرسطو لتلميذه الأسكندر المقدوني ‘تعامل مع أهل الشرق كالسيد فان لهم طبيعة العبيد’.
في الكويت هناك دستور أقر عام 1962 ويفترض أن ذلك الدستور خطوة لطي مرحلة والبدء في مرحلة أخرى تكون فيها المؤسسات هي الركيزة التي يمكن الاتكاء عليها عند الشروع في أية مشاريع وطنية، لكن ما حصل هو أن هناك حنينا شعبيا لمرحلة ما قبل الدستور، حينما كانت المؤسسات غائبة وكان القرار الفردي هو المحرك لكل شيء، ربما يكون النفط قد ساهم في جزء من ذلك الحنين وخلق ثقافة تقوم على الاستهلاك للأفكار كما للسلع، لكن هناك مسؤولية يجب أن يتحملها طرف، ويبدو لي أن الطرف الشعبي مسؤول بقدر الأسباب الأخرى وربما أكثر قليلا.
في الكويت تثار بين الحين والآخر مسألة الخلافة ويطرح تساؤل عمن يكون ولي العهد الجديد إذا ما حدثت تطورات تؤدي إلى مثل ذلك التساؤل وهي ظاهرة غريبة لم يألفها المشهد السياسي من قبل، وتكمن تلك الظاهرة في تقاتل الطامحين من أجل أن يرثوا أحياء، فيما كانت الأمور قبل الآن طبيعية تسير وفق التفاهمات الداخلية بعيدا حتى عن الإجراءات الدستورية، كما حدث في تعيينات سابقة في منصب ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، لكن يبدو أن الطموحات تزداد سخونة بعيدا عن سياق الطقوس التاريخية للاسرة الحاكمة في الكويت.
المتصارعون أو المتنافسون على منصب ولي العهد، كما يبدو من المشهد السياسي حتى الآن، هم من فرع الأحمد من أسرة مبارك الصباح (ليس كل أسرة الصباح) التي حددها الدستور لشغل منصب رئيس الدولة، وفي طليعتهم نائب رئيس الحرس الوطني الشيخ مشعل الأحمد الصباح، وهو أخ غير شقيق لأمير البلاد الحالي الشيخ صباح الأحمد ولولي العهد الشيخ نواف الأحمد، وناصر محمد الأحمد وهو نجل أخ غير شقيق أيضا للأمير وولي العهد، وكان رئيسا للوزراء خلال السنوات الماضية، واضطر أمير البلاد إلى عزله بعد تطورات سياسية أدت إلى ذلك، ثم نجل أمير البلاد الشيخ ناصر صباح الأحمد، ويشغل حاليا منصب وزير الديوان الأميري مع وقف التنفيذ اختياريا.
حصر التنافس في أوساط الأحمد اعتراف ضمني من فرع السالم المنافس التاريخي على منصب رئيس الدولة، فهذا الفرع يعيش حالة انكفاء وعجز عن الحضور على ساحة التنافس من جديد، وفي نفس السياق هناك فرع الحمد وينتمي له رئيس الوزراء الحالي الشيخ جابر مبارك الحمد، وهو يجهد في إقناع فرع الأحمد على استبدال السالم بالحمد من خلال خلق ‘تراتبية’ يتبادل فيها الطرفان السلطة، لكن أجواء الأحمد تقول ‘لم نستبعد فرع السالم ونخرجه من المنافسة من أجل إدخال آخرين’، مما يؤشر إلى بقاء المنافسة في فرع الأحمد حتى نهاية الأفق المفترض.
الشيخ مشعل الأحمد وهو الأقرب لتسلم ولاية العهد، كما يبدو حاليا، لا يحظى بقبول شعبي ولا حتى بقبول من طبقة رجال الأعمال، فالرجل لا يخفي عداءه للديمقراطية، ويعتقد أن الدستور بما يتضمنه من مبادئ ‘خطيئة’ تاريخية ما كان للأسرة الحاكمة أن تقع فيها، ويرى أن العودة إلى ما قبل الدستور هو الحل العملي للأوضاع الحالية التي يعتقد أنها ما كانت لتحدث لولا التنازلات التي قامت بها الأسرة الحاكمة، وهو يريد صياغة مشهد سياسي جديد ليس للشعب فيه من دور سوى حق الاستشارة، من دون التزام بها كما يطرحه الفهم السائد للدين الإسلامي. الطبقة التجارية تتخوف هي الأخرى من وصول الشيخ مشعل الأحمد للسلطة وترى في مثل تلك الخطوة خطرا داهما، لكونه يملك مشروعا تصادميا مع الوضع السائد، وينقل بعضهم عن الرجل أنه لا يقبل الحلول الوسط في مسألة السلطة، الأمر الذي يثير مخاوف تلك الطبقة، وهي التي تؤيد الحلول الوسط في المواجهات الداخلية، ولا تريد أن تخسر ذلك المكسب الذي يميز الكويت عن بقية دول الخليج العربية، وهي تميل إلى اختيار شخصيات أخرى تلتزم بالقدرة على تبني الحلول الوسط.
القوى السياسية الليبرالية تحديدا ليست أقل تخوفا وتسعى إلى تبني خيارات أكثر مواءمة مع المشهد السياسي الحالي، فيما القوى السياسية الإسلامية، بشقيها السني والشيعي، لا تعلن رأيا محددا لكنها تسعى خلف الكواليس نحو إيجاد بدائل أكثر قبولا للشارع أولا ولبقية الشرائح السياسية والاقتصادية، حتى لا تتعرض البلاد إلى أية انتكاسات يمكن أن تبدد أجواء التفاهم الحالية بين المكونات الرئيسية، سواء على صعيد القوى الاجتماعية أو على صعيد القوى السياسية، خاصة أن من الصعب بناء تفاهمات جديدة بدلا من تلك التي جربت لفترة طويلة.
وتتسرب معلومات عن ‘تفاهمات’ بين الحركة الدستورية الإسلامية بالتحديد ‘فرع حركة الأخوان المسلمين في الكويت’ وبين ولي العهد الحالي الشيخ نواف الأحمد، وربما تلتحق بها بقية التيارات الإسلامية بتدبير من الشيخ أحمد الفهد الصباح، وهو أيضا نجل أخ غير شقيق للأمير وولي العهد، وذو شخصية جدلية على الساحة، وهناك كثيرون لا يخفون إعجابهم به بهدف صياغة المرحلة المقبلة، حتى لا تظهر أية انتكاسات غير محسوبة النتائج وبين تلك تحديد من هو ولي العهد القادم. الشيخ ناصر محمد الأحمد رئيس الوزراء السابق خسر الكثير بعد إقالته من منصبه العام الماضي، لكن ذلك لا يعني أنه خارج إطار المنافسة، فالرجل نسج علاقات من الوزن الثقيل داخل الأسرة الحاكمة وخارجها، وهو يتمتع بملاءة مالية كبيرة ربما هي بعيدة عن متناول بقية المنافسين، وهو يحاول الآن أن يشق طريقا على صعيد العلاقات الإقليمية، وربما الدولية عسى أن تكون تلك العلاقات مساهما في وصوله إلى منصب ولاية العهد.
ورغم أن الشيخ ناصر المحمد خسر جناحا رئيسيا في أوساط التجار، خاصة بعض العوائل التقليدية عندما انقلبوا عليه وسربوا بعض الوثائق التي ثار حولها ‘لغط’ شديد وأدت إلى إقالته في نهاية المطاف، إلا أن جناحا آخر لا يقل قوة عن ذلك الجناح لازال يراهن عليه ويعتقد أن لديه الفرصة كاملة للحصول على المنصب، وكلا الطرفين منخرطان في نفس المعركة، لكن الأول يراهن على رئيس الوزراء الحالي، رغم أن حظوظه متواضعة، فيما الآخر يراهن على المحمد، وقد قام في هذا الصدد بتغيير ‘تكتيك’ الترتيب، فبعد أن كان داعما للنائب علي الراشد في منصب رئيس مجلس الأمة، أعاد صياغة الموقع ليشغله رئيس مجلس الأمة الحالي مرزوق الغانم.
الطرف الثالث في المنافسة على ذلك الموقع المتقدم هو وزير الديوان الأميري الشيخ ناصر صباح الأحمد نجل أمير البلاد الحالي ويحظى بعلاقة مميزة مع التيار الليبرالي والتقدمي في البلاد، رغم الانتكاسات التي شابت بداياته العملية وموقفه من الديمقراطية والدستور، إلا أنه عاد عن تلك المواقف في مرحلة لاحقة وصحح مساره وتبنى طروحات تتواءم مع الواقع السياسي الحالي، لكن نقطة ضعفه التي يلومه المقربون عليها، هي عدم قدرته على التواصل مع الآخرين، وضعف حضوره على الساحة في بلد تتقدم فيه العلاقات الاجتماعية على ما عداها، بعكس المنافسين الآخرين.
الطبقة التجارية ‘التقليدية’ ليست مع الشيخ ناصر صباح الأحمد، لكنها ليست ضده فلديها خياراتها الأخرى، وربما يتساءل قارئ عن أسباب تمييزنا لتلك الطبقة وحشرها في هذا الإطار، ويمكن الإجابة عن مثل ذلك التساؤل ببساطة بأنها الطبقة التي حملت العبء الأكبر في نشوء الكويت كبلد واستمرار استقراره، فالكويت تختلف عن كل بلدان الخليج الأخرى، كونها الوحيدة التي سبق تجارها نشوء الدولة، وكانوا سببا في ظهورها، ولهم دور محوري في صنع الأمراء، كما أن القوى السياسية ليست ضده بشكل عام، رغم بعض الملاحظات التي يثيرها التيار الإسلامي بين الحين والآخر، لكن كثيرين يقولون ان ضعف فرصه رغم أنه أحد المرشحين تعود إلى طبيعته هو، وعدم قدرته على الاحتفاظ بالحلفاء فترة طويلة.

‘ كاتب كويتي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية